سورة الزمر - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{تَنزِيلُ الكتاب} أي القرآن مبتدأ خبره {مِنَ الله} أي نزل من الله، أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل، أو غير صلة بل هو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا تنزيل الكتاب هذا من الله {العزيز} في سلطانه {الحكيم} في تدبيره {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} هذا ليس بتكرار لأن الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما في الكتاب {فاعبد الله مُخْلِصاً} حال {لَّهُ الدين} أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر، ف {الدين} منصوب ب {مُخْلِصاً} وقرئ {الدين} بالرفع وحق من رفعه أن يقرأ {مُخْلِصاً} {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} أي هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة كدر لاطلاعه على الغيوب والأسرار. وعن قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام. {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي آلهة وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: والذين عبدوا الأصنام يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} مصدر أي تقريباً {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بين المسلمين والمشركين {فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} قيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. والمعنى أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} أي لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر يعني لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ولكنه يخذله، وكذبهم قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء بنات الله، ولذا عقبه محتجاً عليهم بقوله {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أي لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء لا ما تختارون أنتم وتشاءون {سبحانه} نزه ذاته عن أن يكون له أخذ ما نسبوا إليه من الأولياء والأولاد، ودل على ذلك بقوله {هُوَ الله الواحد القهار} يعني أنه واحد متبريء عن انضمام الأعداد متعال عن التجزؤ والولاد، قهار غلاب لكل شيء ومن الأشياء آلهتهم فأنى يكون له أولياء وشركاء؟.
ثم دل بخلق السماوات والأرض وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر وتسخير النيرين وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك قهار لا يغالب بقوله {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل} والتكوير اللف واللي يقال: كار العمامة على رأسه وكورها، والمعنى أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيّبه عن مطامح الأبصار، أو أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي يوم القيامة {إِلاَّ هُوَ العزيز} الغالب القادر على عقاب من لم يعتبر بتسخير الشمس والقمر فلم يؤمن بمسخرهما {الغفار} لمن فكر واعتبر فآمن بمدبرهما.
{خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة} أي آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء من قُصَيراه. قيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} أي جعل. عن الحسن: أو خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزلها، أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها {ثمانية أزواج} ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز كما بين في سورة الأنعام، والزوج اسم لواحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد ووتر {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم إلى تمام الخلق {فِى ظلمات ثلاث} ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو ظلمة الصلب والبطن والرحم {ذلكم} الذي هذه مفعولاته هو {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُصْرَفُونَ} فكيف يعدل بكم من عبادته إلى عبادة غيره.
ثم بين أنه غني عنهم بقوله {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} عن إيمانكم وأنتم محتاجون إليه لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} لأن الكفر ليس برضا الله تعالى وإن كان بإرادته {وَإِن تَشْكُرُواْ} فتؤمنوا {يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشكر لكم لأنه سبب فوزكم فيثيبكم عليه الجنة {يرضه} بضم الهاء والإشباع: مكي وعلي: {يرضه} بضم الهاء بدون الإشباع: نافع وهشام وعاصم غير يحيى وحماد. وغيرهم {يرضه} {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} إلى جزاء ربكم رجوعكم {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} بخفيات القلوب {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} هو أبو جهل أو كل كافر {ضُرٌّ} بلاء وشدة والمس في الأعراض مجاز {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إلى الله بالدعاء لا يدعو غيره {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} أعطاه {نِعْمَةً مِّنْهُ} من الله عز وجل: {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي نسى ربه الذي كان يتضرع إليه. و{ما} بمعنى (من) كقوله:
{وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} [الليل: 3] أو نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} أمثالاً {لِيُضِلَّ} {لَيِضل} مكي وأبو عمرو ويعقوب {عَن سَبِيلِهِ} أي الإسلام {قُلْ} يا محمد {تَمَتَّعَ} أمر تهديد {بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أي في الدنيا {إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} من أهلها. {أَمَّنْ} قرأ بالتخفيف مكي ونافع وحمزة على إدخال همزة الاستفهام على (من)، وبالتشديد غيرهم على إدخال (أم) عليه و(من) مبتدأ خبره محذوف تقديره (أمن) {هُوَ قَانِتٌ} كغيره أي أمن هو مطيع كمن هو عاص والقانت المطيع لله؟ وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جرى ذكر الكافر قبله، وقوله بعده {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} {ءَانَاءَ اليل} ساعاته {ساجدا وَقَائِماً} حالان من الضمير في {قَانِتٌ} {يَحْذَرُ الآخرة} أي عذاب الآخرة {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي الجنة، ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمته لا عمله ويحذر عقابه لتقصيره في عمله. ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمناً، والخوف إذا جاوز حده يكون إياساً، وقد قال الله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] وقال: {إنه لا ييأس من من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]، فيجب أن لا يجاوز أحدهما حده {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي يعلمون ويعملون به كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء، أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} جمع لب أي إنما يتعظ بوعظ الله أولو العقول.


{قُلْ ياعباد الذين ءَامَنُواْ} بلا ياء عند الأكثر {اتقوا رَبَّكُمُ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي أطاعوا الله في الدنيا. و{في} يتعلق ب {أَحْسَنُواْ} لا ب {حَسَنَةٌ}، معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة أي حسنة لا توصف. وقد علقه السدي ب {حَسَنَةٌ} ففسر الحسنة بالصحة والعافية. ومعنى {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان. قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فتحولوا إلى بلاد أخرى. واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف. وهو حال من الأجر أي موفراً {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} بأن أعبد الله {مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي أمرت بإخلاص الدين {وَأُمِرْتُ لأَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة، والمعنى أن الإخلاص له السُّبقة في الدين فمن أخلص كان سابقاً، فالأول أمر بالعبادة مع الإخلاص، والثاني بالسبق فلاختلاف جهتيهما نزلاً منزلة المختلفين، فصح عطف أحدهما على الآخر.
{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك، وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه السلام: ألا تنظر إلى أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت رداً عليهم {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} وهذه الآية إخبار بأنه يخص الله وحده بعبادته مخلصاً له دينه دون غيره، والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فالكلام أولاً واقع في نفس الفعل وإثباته، وثانياً فيما يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله:
{فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} وهذا أمر تهديد. وقيل له عليه السلام: إن خالفت دين آبائك فقد خسرت فنزلت {قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بإهلاكها في النار {وَأَهْلِيهِمْ} أي وخسروا أهليهم {يَوْمُ القيامة} لأنهم أضلوهم فصاروا إلى النار، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} حيث صدر الجملة بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين، وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق {مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق من النار وهي ظلل لآخرين أي النار محيطة بهم {ذلك} الذي وصف من العذاب أو ذلك الظلل {يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه {ياعباد فاتقون} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي خوّفهم بالنار.
ثم حذرهم نفسه {والذين اجتنبوا الطاغوت} الشياطين (فعلوت) من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكون الطاغوت مصدراً، وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت الرحمة الواسعة، والملكوت الملك المبسوط والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها ههنا الجمع وقريء {الطواغيت} {أَن يَعْبُدُوهَا} بدل الاشتمال من الطاغوت أي عبادتها {وَأَنَابُواْ} رجعوا {إِلَى الله لَهُمُ البشرى} هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين وحين يحشرون {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هم الذين اجتنبوا أنابوا، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع الضمير أراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب، وكذا المباح والندب حراصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، أو يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك، أو يستمعون الحديث مع القوم فيه محاسن ومساوئ فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه {أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب} أي المنتفعون بعقولهم.


{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار} أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أي وجب {أَفَأَنتَ} جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار. ووضع {مَن فِى النار} موضع الضمير أي تنقذه، فالآية على هذا جملة واحدة، أو معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف {مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت منازلها {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} وعد الله مصدر مؤكد، لأن قوله {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وعدهم الله ذلك.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} يعني المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله {فَسَلَكَهُ} فادخله {يَنَابِيعَ فِى الأرض} عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد. و{يَنَابِيعَ} نصب على الحال أو على الظرف و{فِى الأرض} صفة ل {يَنَابِيعَ}. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} بالماء {زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بن وشعير وسمسم وغير ذلك {ثُمَّ يَهِيجُ} يجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعد نضارته وحسنه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فتاتاً متكسراً، فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره {إِنَّ فِى ذلك} في إنزال الماء وإخراج الزرع {لذكرى لأُِوْلِى الألباب} لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} أي وسع صدره {للإسلام} فاهتدى، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرح فقال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل: فهل لذلك من علامة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبّهِ} بيان وبصيرة، والمعنى: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه؟ فحذف لأن قوله {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ} يدل عليه {مِّن ذِكْرِ الله} أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله:
{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] {أُوْلَئِكَ فِى ضلال مُّبِينٍ} غواية ظاهرة.
{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} في إيقاع اسم {الله} مبتدأ وبناء {نَزَّلَ} عليه تفخيم لأحسن الحديث {كتابا} بدل من {أَحْسَنَ الحديث} أو حال منه {متشابها} يشبه بعضه بعضاً في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك {مَّثانِىَ} نعت {كتابا} جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه، فهو بيان لكونه متشابهاً لأن القصص المكررة وغيرها لا تكون إلا متشابهة. وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل. وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات؟ فكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات. أو منصوب على التمييز من {متشابها} كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائل، والمعنى متشابهة مثانية {تَقْشَعِرُّ} تضطرب وتتحرك {مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يقال: اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً. والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، وفي الحديث: «إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. وعُدي ب {إلى} لتضمنه معنى فعل متعد ب (إلى) كأنه قيل: اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة. واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة، لأن رحمته سبقت غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفاً رحيماً. وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب {ذلك} إشارة إلى الكتاب وهو {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ} من عباده وهو من علم منهم اختيار الاهتداء {وَمَن يُضْلِلِ الله} يخلق الضلالة فيه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إلى الحق.
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة} كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ} أي تقول لهم خزنة النار {ذُوقُواْ} وبال {مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي كسبكم {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قريش {فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بيناهم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله {فِى الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبْرُ} من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لآمنوا.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليتعظوا {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} حال مؤكدة كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً، فتذكر رجلاً أو إنساناً توكيداً، أو نصب على المدح {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف. ولم يقل (مستقيماً) للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط. وقيل: المراد بالعوج الشك {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر.
{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} بدل {فِيهِ شُرَكَآءُ متشاكسون} متنازعون ومختلفون {وَرَجُلاً سَلَماً} مصدر سلم والمعنى ذا سلامة {لِرَجُلٍ} أي ذا خلوص له من الشركة. {سالماً} مكي وأبو عمرو أي خالصاً له {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} صفة وهو تمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء {مثلين}. {الحمد للَّهِ} الذي لا إله إلا هو {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره. مثل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف، وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع وقلبه أوزاع، والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي ستموت {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} وبالتخفيف من حل به الموت، قال الخليل أنشد أبو عمرو:
وتسألني تفسير ميت وميّت *** فدونك قد فسرت إن كنت تعقلُ
فمن كان ذا روح فذلك ميت *** وما الميت إلا من إلى القبر يحملُ
كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني، وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان.

1 | 2 | 3